كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَالنُّكْتَةُ فِي الِاكْتِفَاءِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِ نَفْيِ الْوَالِدِ، تَظْهَرُ بِوُجُوهٍ:
(1) أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الْكَلَالَةِ لُغَةً.
(2) أَنَّ الْأَكْثَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمُوتُ عَنْ تَرِكَةٍ، بَعْدَ مَوْتِ وَالِدَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي يَتْرُكُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وِرَثَهُ مِنْهُمَا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اكْتَسَبَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْكَسْبُ فِي سِنِّ الشَّبَابِ وَالْكُهُولَةِ وَيَقِلُّ فِي هَذِهِ الْحَالِ بَقَاءُ الْوَالِدَيْنِ، فَلَمْ يُرَاعَ فِي الذِّكْرِ إِيجَازًا.
(3) وَهُوَ الْعُمْدَةُ أَنَّ عَدَمَ إِرْثِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْوَالِدِ الَّذِي يُدْلُونَ بِهِ قَدْ عُلِمَ مِنْ آيَاتِ الْفَرَائِضِ الَّتِي أُنْزِلَتْ أَوَّلًا وَتَقَدَّمَتْ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ، وَمَضَتِ السُّنَّةُ فِي بَيَانِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا عَلَى ذَلِكَ، وَعُلِمَ أَيْضًا مِنَ الْقَاعِدَةِ الْقِيَاسِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ، وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهِيَ كَوْنُ الْأَصْلِ فِي الْإِرْثِ أَنْ يَكُونَ لِلذَّكَرِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَمِنْ قَاعِدَةِ حَجْبِ الْوَالِدِ لِأَوْلَادِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الْأُولَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [4: 11]؛ أَيْ: وَالْبَاقِي- وَهُوَ الثُّلْثَانِ- لِأَبِيهِ عَمَلًا بِالْقَاعِدَةِ {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [4: 11] لِأَنَّ أَوْلَادَهَا يَحْجُبُونَهَا حَجْبَ نُقْصَانٍ؛ فَيَكُونُ ثُلُثُهَا سُدُسًا، وَالسُّدُسُ الْآخَرُ يَكُونُ لَهُمْ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَيَقُولُونَ: إِنَّ الْبَاقِيَ كُلَّهُ لِلْأَبِ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ بَيَّنَتْ أَنَّ وُجُودَهُمَا يُنْقِصُ فَرْضَهَا، وَلَمْ تَفْرِضْ لَهُمْ شَيْئًا، وَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ لَيْسَ لَهُمْ فَرْضٌ مَعَ وُجُودِ الْأَبِ الَّذِي يَحْجُبُهُمْ حَجْبَ حِرْمَانٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى أَخِيهِمْ إِلَّا بِهِ، وَمَا يَتْرُكُهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَغَيْرِهِ يَعُودُ إِلَيْهِمْ؛ فَلِهَذِهِ الْوُجُوهِ لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ عَدَمِ الْأَبِ فَائِدَةٌ فَتُرِكَ إِيجَازًا؛ لِلْعِلْمِ بِهِ مِنْ لَفْظِ الْكَلَالَةِ وَمِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَالْقَوَاعِدِ الثَّابِتَةِ، وَكَذَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَبْنِيِّ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَالْمُبَيِّنُ لَهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ، وَلَيْسَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ نَفْيِ الْوَالِدِ هُنَا مَعَ إِرَادَتِهِ، إِلَّا مِثْلَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفَرْضُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دِينٍ، كُلٌّ مِنْهُمَا عُلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ، فَاسْتُغْنِيَ عَنْ إِعَادَةِ ذِكْرِهِ، بَلْ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ ذِكْرِ نَفْيِ الْوَالِدِ أَقْوَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ مِنَ اللَّفْظِ، وَكَوْنِ الْغَالِبِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ، وَكَوْنِهِ إِنْ وُجِدَ يَكُونُ حَجْبُهُ لِأَوْلَادِهِ مَعْلُومًا قَطْعِيًّا؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ وَمَقِيسٌ، وَإِنَّمَا أَطَلْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَرَّرْتُ بَعْضَ الْمَعَانِي؛ لِاضْطِرَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي الْكَلَالَةِ، وَعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى بَيَانٍ تَامٍّ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَ مَا جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُونَ، وَبَيْنَ عِبَارَةِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَلَدِ هُنَا هَلْ هُوَ عَلَى إِطْلَاقِهِ فَيَشْمَلُ الْبِنْتَ، أَوْ هُوَ خَاصٌّ بِالِابْنِ، كَمَا يُطْلَقُ أَحْيَانًا، وَسَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّ الْأُخْتَ لَا تَرِثُ شَيْئًا مَعَ وُجُودِ الِابْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا مَعَ وُجُودِ الْبِنْتِ فَتَرِثُ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْوَلَدَ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى هُنَا لَمْ يَرَ إِرْثَ الْأُخْتِ مَعَ وُجُودِ الْبِنْتِ مَانِعًا مِنِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ وُجُودِ الْبِنْتِ، لِإِرْثِهَا النِّصْفَ فَرْضًا؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ الثَّابِتَ لَهَا هُنَا- وَهُوَ النِّصْفُ- يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَمُ وُجُودِ الْبِنْتِ، فَإِنَّهَا إِذَا وُجِدَتْ تَجْعَلُهَا عَصَبَةً تَرِثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَخْذِ كُلِّ ذِي فَرْضٍ حَقَّهُ مِنَ التَّرِكَةِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْبَاقِي النِّصْفَ، وَقَدْ يَكُونُ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَارِثٌ إِلَّا الْبِنْتَ وَالْأُخْتَ كَانَ النِّصْفُ لِلْبِنْتِ فَرْضًا، وَالْبَاقِي وَهُوَ النِّصْفُ لِلْأُخْتِ تَعْصِيبًا لَا فَرْضًا، فَلَا يُنَافِي الْآيَةَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعَ الْبِنْتِ زَوْجَةٌ فَإِنَّهَا تَأْخُذُ الثُّمُنَ، فَيَكُونُ مَا بَقِيَ لِلْأُخْتِ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ، وَلَوْ كَانَتْ تَرِثُ النِّصْفَ فَرْضًا مَعَ وُجُودِ الْبِنْتِ، وَوُجِدَ مَعَ الْبِنْتِ زَوْجَةٌ لِلْمَيِّتِ لَعَالَتِ الْمَسْأَلَةُ، وَكَانَ النَّقْصُ مِنَ السِّهَامِ لَاحِقًا بِكُلِّ الْأَنْصِبَاءِ فَلَا تَقِلُّ سِهَامُ الْأُخْتِ عَنْ سِهَامِ الْبِنْتِ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمَنْفِيَّ هُنَا يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ.
{وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} أَيْ وَالْمَرْءَ يَرِثُ أُخْتَهُ إِذَا مَاتَتْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى، وَلَا وَالِدٌ يَحْجُبُهُ عَنْ إِرْثِهَا، كَمَا عُلِمَ مِنْ مَعْنَى الْكَلَالَةِ، وَمِنَ الْآيَاتِ وَالْقَوَاعِدِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا، وَبَيَّنَّا أَنَّهَا هِيَ الَّتِي جَعَلَتْ مِنَ الْإِيجَازِ الْبَلِيغِ عَدَمَ ذِكْرِ اشْتِرَاطِ نَفْيِ الْوَالِدِ؛ لِأَنَّهُ كَتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، كَاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ أَلْبَتَّةَ، وَرِثَهَا وَحْدَهُ فَكَانَ لَهُ كُلُّ التَّرِكَةِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَاعِدَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ؛ لِأَنَّهُ مُقَابِلُ إِرْثِ الْأُخْتِ لِلنِّصْفِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ الْإِرْثَ، وَلَمْ يُبَيِّنِ النَّصِيبَ؛ لِأَنَّ الْأَخَ لَيْسَ صَاحِبَ فَرْضٍ مُعَيَّنٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، بَلْ هُوَ عَصَبَةٌ يَحُوزُ كُلَّ التَّرِكَةِ عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ، وَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِ أَحَدٍ مِنْهُمْ يَرِثُ هُوَ مَعَهُ فَيَحُوزُ كَلَالَةَ جَمِيعِ مَا بَقِيَ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، فَبِنْتُ الْأُخْتِ فِي مَسْأَلَتِنَا لَهَا النِّصْفُ فَرْضًا إِذَا انْفَرَدَتْ، فَهُوَ يَرِثُ مَعَهَا الْبَاقِيَ، وَهُوَ النِّصْفُ الْآخَرُ، فَإِذَا مَاتَتْ عَنْهُ وَعَنْ بِنْتٍ وَزَوْجٍ؛ فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، وَلِلْأَخِ الْبَاقِي وَهُوَ الرُّبُعُ. وَقَدْ أَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُدْخِلَ الصُّوَرَ الَّتِي يَرِثُ فِيهَا الْأَخُ مَعَ الْبِنْتِ الْأُخْتَ فِي مَفْهُومِ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَفَسَّرُوا الْوَلَدَ بِالِابْنِ، وَلَا مَنْدُوحَةَ عَنْ ذَلِكَ إذًا؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ لَا تَحْجُبُهُ عَنِ الْمِيرَاثِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَكِنْ إِرَادَةُ هَذِهِ الصُّوَرِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ، وَحُكْمُهَا مَعْلُومٌ مِنَ النُّصُوصِ الْأُخْرَى.
{فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلْثَانِ مِمَّا تَرَكَ} أَيْ فَإِنْ كَانَ مَنْ يَرِثُ بِالْأُخُوَّةِ أُخْتَيْنِ، فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ أَخُوهُمَا كَلَالَةً، وَكَذَا إِنْ كُنَّ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْنِ بِالْأَوْلَى؛ كَأَخَوَاتِ جَابِرٍ، وَكُنَّ سَبْعًا أَوْ تِسْعًا، وَالْبَاقِي لِمَنْ يُوجَدُ مِنَ الْعَصَبَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ كَالزَّوْجَةِ، وَإِلَّا أَخَذَ كُلُّ ذِي فَرْضٍ فَرْضَهُ أَوَّلًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ، وَعَبَّرَ بِالْعَدَدِ فَقَالَ: (اثْنَتَيْنِ) دُونَ (أُخْتَيْنِ) لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْإِخْوَةِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْفَرْضِ بِالْعَدَدِ.
{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً} أَيْ وَإِنْ كَانَ مَنْ يَرِثُونَ بِالْأُخُوَّةِ كَلَالَةً ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى الْقَاعِدَةِ فِي كُلِّ صِنْفٍ اجْتَمَعَ مِنْهُ أَفْرَادٌ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، إِلَّا أَوْلَادَ الْأُمِّ فَإِنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي سُدُسِ أُمِّهِمْ لِحُلُولِهِمْ مَحَلَّهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَرِثُوا؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ عُصْبَةِ الْمَيِّتِ. وَفِي الْعِبَارَةِ تَغْلِيبُ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ.
{يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أَيْ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أُمُورَ دِينِكُمْ، وَمِنْ أَهَمِّهَا تَفْصِيلُ هَذِهِ الْفَرَائِضِ وَأَحْكَامِهَا، كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا، أَوْ تَفَادِيًا مِنْهَا مِنْ أَنْ تَضِلُّوا، وَالْمُرَادُ لِتَتَّقُوا بِمَعْرِفَتِهَا وَالْإِذْعَانِ لَهَا الضَّلَالَ فِي قِسْمَةِ التَّرِكَاتِ وَغَيْرِهَا، هَذَا هُوَ التَّوْجِيهُ الْمَشْهُورُ زِدْنَاهُ بَيَانًا بِالتَّصَرُّفِ فِي التَّقْدِيرِ، وَهُوَ عَلَى هَذَا مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ. وَقَدَّمَ الْبَيْضَاوِيُّ عَلَيْهِ وَجْهًا آخَرَ، فَقَالَ: أَيْ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ ضَلَالَكُمُ الَّذِي مِنْ شَأْنِكُمْ، إِذَا خُلِّيتُمْ وَطِبَاعَكُمْ لِتَحْتَرِزُوا عَنْهُ وَتَتَحَرَّوْا خِلَافَهُ.
وَنَقَلَ الرَّازِيُّ عَنِ الْجُرْجَانِيِّ صَاحِبِ النَّظْمِ أَنَّهُ قَالَ: يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الضَّلَالَةَ لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا ضَلَالَةٌ فَتَجْتَنِبُوهَا اهـ.
وَالْكُوفِيُّونَ يُقَدِّرُونَ حَرْفَ النَّفْيِ، أَيْ: لِئَلَّا تَضِلُّوا.
وَالْأَوَّلُ الَّذِي عَلَيْهِ الْبَصْرِيُّونَ أَظْهَرُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «لَا يَدْعُو أَحَدُكُمْ عَلَى وَلَدِهِ أَنْ يُوَافِقَ مِنَ اللهِ سَاعَةَ إِجَابَةٍ» قِيلَ: مَعْنَاهُ لِئَلَّا يُوَافِقَ سَاعَةَ إِجَابَةٍ، وَالْأَظْهَرُ تَقْدِيرُ الْبَصْرِيِّينَ: أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ يُوَافِقَ سَاعَةَ إِجَابَةٍ، وَفِي مَعْنَى الْكَرَاهَةِ الْحَذَرُ وَالتَّفَادِي، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ وَتَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَمَا شَرَعَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَسِوَاهَا، إِلَّا عَنْ عِلْمٍ بِأَنَّ فِيهَا الْخَيْرَ لَكُمْ وَحِفْظَ مَصَالِحِكُمْ، وَصَلَاحَ ذَاتِ بَيْنَكُمْ، كَمَا هُوَ شَأْنُهُ فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهِ وَأَفْعَالِهِ، كُلُّهَا مُوَافَقَةٌ لِلْحِكْمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِحَاطَةِ الْعِلْمِ وَسِعَةِ الرَّحْمَةِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ وَالْأُسْلُوبِ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنَ السِّيَاقِ لَهُ حُكْمُ الْمَذْكُورِ فِي اللَّفْظِ حَتَّى فِي إِعَادَةِ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ، فَلَا يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ لَفْظِ الْمَرْءِ فِي بَيَانِ مَرْجِعِ ضَمِيرِ {وَهُوَ يَرِثُهَا} بَلْ يَصِحُّ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْمَعْنَى: وَهُوَ أَيْ أَخُوهَا، يَرِثُهَا إِلَخْ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {فَإِنْ كَانَتَا}، {وَإِنْ كَانُوا}.
وَمِنْ مَبَاحِثِ تَارِيخِ الْقُرْآنِ وَأَسْبَابِ نُزُولِهِ: مَا رُوِيَ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ. رَوَى الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً بَرَاءَةٌ أَيِ التَّوْبَةُ، وَآخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ أَيْ مِنْ آيَاتِ الْفَرَائِضِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَبِهَذَا لَا تُنَافِي مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عُمَرَ التَّعْبِيرُ بِقَوْلِهِ: مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ آيَةُ الرِّبَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، قَالُوا: الْمُرَادُ بِآيَةِ الرِّبَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [2: 278] الْآيَةَ. وَذَكَرَ عُمَرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ، وَلَمْ يُفَسِّرْهَا، وَفِي رِوَايَاتٍ ضَعِيفَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ، أَوْ آخِرَ مَا نَزَلَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} [2: 281] الْآيَةَ، وَهِيَ بَعْدُ آيَاتِ الرِّبَا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ أَنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ، أَوْ آخِرُهُ. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ: وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِهَا وَبَيْنَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ وَثَمَانُونَ يَوْمًا. وَرِوَايَةُ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ هِيَ أَوْهَى الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهَا، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهَا آخِرُ مَا نَزَلْ مِنَ الْقُرْآنِ كُلِّهِ، قَالَ: وَعَاشَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، تِسْعَ لَيَالٍ، وَمَاتَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ بَحْثٌ لَيْسَ هَذَا مَحَلَّهُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْقَطْعِ بِآخِرِ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا نَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ آخَرَ مَا نَزَلَ قَطْعًا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ آخِرَهَا كُلِّهَا، وَاللهُ أَعْلَمُ.
خُلَاصَةُ السُّورَةِ:
افْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى، وَذِكْرِ بَدْءِ خَلْقِ النَّاسِ وَتَنَاسُلِهِمْ، ثُمَّ بِالْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْبُيُوتِ: الْأَهْلِ وَالْعَشِيرَةِ، وَحُقُوقِ الْيَتَامَى وَالنِّسَاءِ الْمَالِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ، وَمِنْهَا فَرَائِضُ الْمَوَارِيثِ، وَإِرْثُ النِّسَاءِ وَعَضْلُهُنَّ، وَعِقَابِ مَنْ يَأْتِي الْفَاحِشَةَ مِنَ الْجِنْسَيْنِ، وَمُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ وَمُحَلَّلَاتِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَزْوَاجِ وَحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، فَهَذَا نَسَقٌ وَاحِدٌ فِي خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ آيَةً، تَتَخَلَّلُهَا عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ الْوَصِيَّةُ بِالتَّقْوَى، وَالتَّرْغِيبُ فِي الطَّاعَةِ وَالْوَعْدُ عَلَيْهَا، وَالْوَعِيدُ عَلَى الْمَعَاصِي، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاعِظِ الَّتِي تُغَذِّي الْإِيمَانَ بِاللهِ وَتُزَكِّي النَّفْسَ.
يَلِي ذَلِكَ مُحَاجَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ، مُمَهَّدًا لَهَا بِالْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ وَالنَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ، وَالْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجِيرَانِ، وَتَشْنِيعِ الْبُخْلِ وَكِتْمَانِ نِعَمِ اللهِ، وَوَعِيدِ الْكُفْرِ وَعِصْيَانِ الرَّسُولِ. وَذَلِكَ فِي بِضْعِ آيَاتٍ لَيْسَ فِيهَا مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ شَيْءٌ، إِلَّا مَا خُتِمَتْ بِهِ مِنْ آيَاتِ التَّيَمُّمِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي حَالِ السُّكْرِ، ثُمَّ صَرَّحَ بَعْدَهَا بِحِكَايَةِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ فِي دِينِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ، وَبَيَّنَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْعِبَرِ، وَمَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ؛ لِيُعْلَمَ مِنْهُ سُنَّةُ اللهِ وَحُكْمُهُ فِيمَنْ يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِهِمْ، وَتَكُونُ حَالُهُ كَحَالِهِمْ، كَمَا وَعَدَ مَنْ كَانَ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ؛ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالصَّلَاحُ لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ وَالْقُدْوَةِ، وَذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ 44 إِلَى الْآيَةِ 57.
وَلَمَّا كَانَ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْيَهُودِ ذِكْرٌ لِحَالِهِمْ فِي الْمُلْكِ لَوْ كَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْهُ، وَهُوَ الْأَثَرَةُ وَحِرْمَانُ غَيْرِهِمْ مِنْ أَقَلِّ مَنْفَعَةٍ، بَيَّنَ عَقِبَهُ مَا يَجِبُ أَنْ تُؤَسَّسَ عَلَيْهِ الْحُكُومَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ، وَهُوَ أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ بِالْعَدْلِ بِلَا مُحَابَاةٍ، وَإِطَاعَةُ اللهِ فِيمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَإِطَاعَةُ رَسُولِهِ فِيمَا مَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ مِنْ بَيَانِهَا وَالْقَضَاءِ بِهَا أَوْ بِاجْتِهَادِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُولِي الْأَمْرِ، وَهُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِيمَا يَضَعُونَ لِلنَّاسِ مِنَ النِّظَامِ الْمَدَنِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ بِحَسْبِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَيَكُونُ مَا يَضَعُونَهُ مُطَاعًا فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ.